سيدة الرهانات الخاسرة

سيدة الرهانات الخاسرة

(1)
تستمر الامطار فى طرق الواجهة الزجاجية للمقهى مواصلة عزف تلك السيمفونية الجميلة احيانا و المرعبة احيانا على كل ما يصادفها من اسطح و من روؤس هؤلاء البشر الذين اتعسهم حظهم بالخروج فى ذلك الطقس الغير مستقر ... يزدحم المقهى بالكثير من الوجوه الذين لجأوا اليه فى محاولة للاحتماء من الامطار المتساقطة بشدة فى الخارج فى انتظار ان يتحسن الطقس قليلا ليكملوا رحلتهم كل الى وجهته ... ألمح وجههك وسط تلك الملامح المتعددة التى تملأ المكان ... أحاول التأكد من هويتك مرة اخرى بينما تتحركين تجاه طاولة لطالما اعتدتى الجلوس عليها قبل ان تغيرى وجهتك صوب الطاولة التى اجلس عليها ... تتبسمين نصف ابتسامة قبل ان تجلسى بجوارى على نفس الطاولة.
(2)
- لا زلتى متألقة مثلما كنتى دوما.
- و انت لا زلت تتقن بدأ الحوار بنفس الطريقة الساحرة ... لقد مر الكثير من الوقت منذ اخر مقابلة بيننا فى هذا المقهى ... أليس كذلك؟
- لم يمر اكثر من عام و بضعة اشهر على ذلك بحساب الفلكيين و مخترعى التقويم ... اما الحساب الحقيقى للزمن يكمن في حقيقة مشاعرنا تجاه بعضنا الاخر ... " كان ذلك غداً لانى لازلت احبك ... كان ذلك البارحة لانك نسيتنى " كما تقول غادة السمان.
- تعلم اننى لن استطيع مجاراتك فى كلماتك ... و لكن اخبرنى ماذا تفعل فى ايامك الان؟
- لا جديد ... ايامى الان تشبه ايامى قبل هذا المقهى.
يقطع هذا الحديث قدوم النادل حاملا فنجانين من القهوة و صحن من قطع السكر نحونا قبل ان يضع حمولته على الطاولة بيننا.
(3)
- لقد بحثت عنك على تلك الطاولة البعيدة التى اعتادنا الجلوس عليها و لكنى لم اجدك هناك حتى اننى ظننت انك لم تعد تأتى الى هنا و لكنى لمحت وجهك على هذه الطاولة و ان فى طريقى الى الخروج مما جعلنى اعاود ادراجى الى هنا.
- نعم ... فتلك الطاولة لم تعد لنا ... و من الصعب ان تصبح لنا بعد الان.
- لماذا؟
- لقد تعبت من تحرش الذاكرة بعقلى و قلبى المنهكين ... لقد سأمت من ملاحقة الذكريات لى ... و لذلك فضلت ان اتركها لعاشقين غيرنا على امل ان يكونا اكثر وفاءاً منا ... نعم لا زلت اتى الى هنا كل يوم ... لكنى اصبحت اجلس على هذه الطاولة اراقب هذان العاشقين الجالسين على طاولة كانت لنا يوماً ... اجلس و انا اتخيل كلا منهم ممسكا بخنجراً مستعدا لطعن الاخر فى لحظة غدر ... اجلس لادعو الله لهم بطول فترة الحب و العشق قبل ان يستيقظوا ذات صباح على حلول شتاء الخيانة و صقيع الكراهية.
تمتد يدى الى صحن السكر لالتقط قطعة واحدة اضعها فى فنجان القهوة المستقر امامها ... احركه قليلا قبل ان ادفعه قليلا فى اتجاهها ... اعود الى صحن السكر لالتقط قطعا ثلاثا اخرى اضعها فى فنجانى ... احركه قليلا ثم اتذوقه و اعيده الى الطاولة.
- ارى انك ما زلت تتذكر اننى افضل مذاق القهوة بقطعة واحدة من السكر ... و لكننى اتذكر ايضا انك كنت تشرب قهوتك من دون اضافة السكر و انك لطالما قلت ان السكر يخفى المذاق الحقيقى للقهوة.
- لقد امضيت بضعة اياما بعدك اشرب قهوتى من دون سكر كما اعتدت و لكنى اكتشفت ان القهوة اصبح لها مذاقا مرا لم يكن لها من قبل ... اكتشفت اننى لم احتج يوماً لطعم السكر و انا احتسى قهوتى متأملاً ملامح وجههك الطفولى عندما كنا نجلس معاً ... اما الان فليس هناك بديلا عن السكر ليخفى ذلك المذاق المر الذى تهدينى اياه القهوة كلما جلست هنا بجوار ذكرياتى ... و الان دعينا من الحديث عن القهوة ... هل لى ان أسألك ان كان مرورك من هنا محض مصادفة ام انك اتيتى الى هنا انت الاخرى فى محاولة للتحرش بذاكرتك؟
- لا ادرى ... اتعلم باننى منذ اشهر و انا اريد ان اتى الى هنا ... اريد ان امحو تلك الفترة من حياتى ... اريد ان اعود لأبدأ من جديد و كأن شيئا لم يكن ... و لكننى كنت خائفة فقط من المرور مرة اخرى من هنا ... كنت اخاف ان اعيد احياء جراحا لم تلتئم حتى الان ... و لكنى بالامس فقط قراءة تلك الرسالة التى ارسلتها الى بعد ايام من فراقنا و التى لم اقرأها حتى الامس ... " يوما ما عندما تتذكرين ما كان سوف تسارعين الى هاتفك لتسترجعى ارقاماً لشخص كان ينتظر مكالماتك بفارغ الصبر ... و لكن لن يجيبك وقتها سوى رسالة مسجلة لتخبرك ب" ان الرقم الذى تحاولين الاتصال به الان غير متاح الى الابد " ... عندها فقط سوف تدركين كم كان سقوطك مدويا ... و انك كنت سيدة الرهانات الخاسرة بأمتياز ... يومها فقط سوف تكتشفين كم كنت حمقاء عندما راهنتى بكل ما تمتلكين على الاشخاص الخطأ ... سوف تكتشفين الفرق بين من أراد ان يكمل معك رحلتك و بين من سوف يغادرك عند اول توقف ... بين من عشقك لذاتك و بين من تلاعب بمشاعرك ... " ... و لذلك انا اجلس امامك الان ألعن كل رهاناتى الخاسرة ... اجلس امامك  اندم على ترك الرهان الوحيد الرابح فى حياتى سعيا وراء السراب ... اجلس لاعترف امامك باننى كنت حمقاء عندما اخبرتك يومها باننى لا يمكننى ان اكون معك بعد ذلك اليوم ... لاعترف اننى كنت مخطئة عندما تركتك سعيا وراء رجل لم يكن بمثل رجولتك ... لم يكن بمثل وفاءك ... لم يكن مثلك ... اجلس لابكى لما تذكرت كم تمسكت انت بحبك لى و انا اجرحك بكلماتى حتى اجعلك تكرهنى ظنا منى اننى قد وجدت ذلك الحب مع شخصا لم يجد حرجا فى التلاعب بى قبل ان يلقينى الى الهاوية كأنما اراد ان ينتقم منى لك على طريقتى عندما اضعتك من بين يدى يومها ... لذلك انا اجلس منك اليوم جلوس المذنب بين يدى خصمه و قاضيه و جلاده فى انتظار حكما بالاعدام.
- اتعلمين اننى احبك اليوم اكثر من اى وقت مضى و لكنى اسمحى لى ان اقرأ عليك بقية رسالتى تلك ... " وقتها سوف تنظرين حولك لتجدى ان كل شئ قد تغير ... و ان الحياة قد استمرت بدونك و بدون حضورك ... سوف تكتشفين اشكالا جديدة للحب لم تعرفيها من قبل ... سوف تكتشفين كيف انه بأمكاننا ان نقف فى مسافة واحدة بين الحب و الكراهية ... سوف تكتشفين باننى احببتك اكثر من أى شخص اخر و لذلك سوف يكون من الصعب ان نكون معا مرة اخرى ... ستكتشفين انها سوف يصبح من المستحيل ان نجلس على طاولة واحدة دون ان يجلس الى جوارنا شبح لشخص ذهبت معه يوما و تركتينى اجلس واحدة مع ذاكرتى التى اخشى انها قد تكون اقوى مما اريد ... سوف يصبح من المستحيل ان اداوى كبرياءا ينزف بداخلى و ان اغض الطرف عن رؤية سلاح حمل بصمات اصابعك يوم سددتى طعنتك الى قلبى ... يومها سوف تتأكدين بان الحب لا يمكن ان يتحول الى كراهية و ان اشباه الحب لا يمكن ان تصبح حبا ... سوف تكتشفين بان هناك الكثير من الحب مكانه تلك الاوراق التى نسميها مذكراتنا ... سوف تتعلمين كيف لشخص ان يحبك و يدفن حبه داخل قلبه ليحتفظ به حتى دقات قلبه الاخيرة دون ان يصرح بها لنفس الشخص مرتين ... سوف تكتشفين مدى غباء جيناتنا العربية التى تضع كرامتنا فوق اى شئ عندما يتعلق الامر بالحب ... يومها ستعرفين اننى احببتك اكثر من اى شئ فى هذه الحياة و اننى سوف اظل على حبى لك و لكن ذلك الحب اصبح لا يمكن التصريح به للعديد من الاسباب ... سوف تتأكدين باننا لم نعد نفس الاشخاص الذين احبوا بعض يوما و ان شيئا بداخلنا قد تغير و انه لم يعد بأمكاننا ان نكون معا مرة اخرى ."
(4)
تستمر ومضات البرق فى اضاءة الليل بالخارج فى الوقت الذى توقفت فيه الامطار عن الهطول قليلا مما جعل الجميع يسارع فى الخروج من المقهى فى محاولة للوصول الى منازلهم قبل ان تبدأ الامطار فى عزف سيمفونية جديدة من الايقاعات ... انظر الى الطاولة قبل ان أغادر لأجد فنجانين فارغين و الكثر من اعقاب السجائر و بقايا لرسالة محترقة لم يعد يظهر من كلماتها سوف كلمة " احبك ".
أحمد حمدى سراج الدين
الجمعة 21 ديسمبر 2012

0 التعليقات: